مجلة التمويل والتنمية, ديسمبر 2017 • المجلد 54 • العدد 4    النص

تكلفة الصراع

الصراع في الشرق الأوسط يسفر عن خسائر فادحة في اقتصادات المنطقة

فيل دي إيموس وغايل بيير وبيورن روثر

تعرضت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لصراعات أكثر تواترا وحدة مما تعرض له أي جزء آخر في العالم على مدى الخمسين عاما الماضية. وفي المتوسط، شهدت بلدان هذه المنطقة نوعا من أنواع الحروب كل ثلاث سنوات. والآن، نادرا ما يمر يوم بدون تقارير إعلامية عن وقوع عنف أو معاناة بشرية واسعة النطاق أو تدمير كبير في بلدان مثل العراق وسوريا واليمن.

وتنطوي هذه الصراعات على تكاليف بشرية واقتصادية ضخمة للبلدان المعنية مباشرة وللبلدان المجاورة لها. وقد شهدت ليبيا وسوريا واليمن تراجعات حادة في اقتصاداتها مصحوبة بزيادات حادة في التضخم بين عامي 2010 و2016. ولا يزال اقتصاد العراق هشا نتيجة الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وانخفاض أسعار النفط منذ عام 2014. وانتقلت الاشتباكات إلى بلدان أخرى، مما تسبب في مشاكل من المتوقع أن تستمر — مثل الضغوط الاقتصادية الناجمة عن استضافة اللاجئين. وقد أدى الصراع العنيف إلى تدهور الأوضاع في منطقة تواجه بالفعل قصورا هيكليا وانخفاض الاستثمار وتراجع أسعار النفط في الفترة الأخيرة، مما كان له أثر كبير على الاقتصادات المنتجة للنفط.

القنوات الرئيسية

يؤثر الصراع على الاقتصادات من خلال أربع قنوات.

أولا، تؤدي الوفيات والإصابات وحالات النزوح إلى تآكل خطير في رأس المال البشري . وفي حين أنه من الصعب التحقق من الأرقام، فإن التقديرات تشير إلى مقتل نصف مليون من المدنيين والمحاربين في المنطقة منذ عام 2011. وبالإضافة إلى ذلك، حسب الوضع في نهاية عام 2016، كانت المنطقة تضم ما يقرب من نصف سكان العالم النازحين قسرا: اضطر 10 ملايين لاجئ و20 مليون نازح داخليا من المنطقة إلى هجر ديارهم. ويوجد بسوريا وحدها 12 مليون شخص نازح وهو أكبر عدد من بين بلدان المنطقة.

ويقلل الصراع أيضا رأس المال البشري عن طريق نشر الفقر. وغالبا ما يزداد الفقر في بلدان الصراع مع انخفاض فرص العمل، حتى خارج المناطق المتأثرة مباشرة بالعنف. وتتدهور أيضا جودة التعليم والخدمات الصحية وتزداد عمقا كلما طال أمد الصراع. وتعد سوريا مثالا دراماتيكيا. فقد قفزت البطالة من 8.4% في عام 2010 إلى أكثر من 50% في عام 2013، ووصلت معدلات ترك الدراسة إلى 52%، وانخفضت تقديرات العمر المتوقع من 76 عاما قبل الصراع إلى 56 عاما في عام 2014. ومنذ ذلك الحين، ازداد الوضع سوء.

وثانيا، تعرض رأس المال المادي والبنية التحتية إلى الضرر أو التدمير . فقد تعرضت المنازل والمباني والطرق والجسور والمدارس والمستشفيات — فضلا عن البنية التحتية الخاصة بالمياه والطاقة والصرف الصحي — إلى أضرار بالغة. وفي بعض المناطق، أزيلت نظم حضرية تماما. وبالإضافة إلى ذلك، تدهورت بشدة البنية التحتية المتعلقة بالقطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل النفط والزراعة والصناعات التحويلية، مع ما لذلك من تداعيات على النمو والمالية العامة وعائدات التصدير واحتياطيات النقد الأجنبي. وفي سوريا، تعرض أكثر من ربع الرصيد من المنازل إلى التدمير أو الضرر منذ بداية الحرب، بينما أدى الضرر الذي تعرضت له البنية التحتية في اليمن إلى تفاقم حالات الجفاف وأسهم في انعدام الأمن الغذائي وانتشار الأمراض بشكل حاد. وتعرض القطاع الزراعي للبلد، الذي كان يوظف أكثر من نصف السكان، إلى صدمة بالغة حيث شهد إنتاج الحبوب انخفاضا نسبته 37% في عام 2016 مقارنة بمتوسط السنوات الخمس السابقة (UNOCHA 2017).

وثالثا، تعرض التنظيم الاقتصادي والمؤسسات للضرر. فقد كان تدهور الحوكمة الاقتصادية حادا للغاية في الوقت الذي كانت فيه جودة المؤسسات ضعيفة بالفعل قبل اندلاع العنف، كما كان الحال في العراق وليبيا وسوريا واليمن. وقد أدى هذا الضرر إلى تراجع إمكانية الوصول وارتفاع تكاليف النقل وانقطاعات في سلاسل الإمداد والشبكات. ويمكن أن تصبح المؤسسات عرضة للفساد في محاولة أطراف الصراع السيطرة على النشاط السياسي والاقتصادي. فقد يعاد توجيه إنفاق المالية العامة والائتمان مثلا إلى الدوائر الانتخابية ومؤيدي من هم في السلطة. وبشكل أعم، شهد الكثير من المؤسسات الاقتصادية المؤثرة — البنوك المركزية ووزارات المالية وهيئات الضرائب والمحاكم التجارية — انخفاضا في فعاليتها لأنها فقدت الاتصال بالمناطق الأكثر بُعدا من البلد. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن تكلفة الاضطرابات التي تعرض لها التنظيم الاقتصادي تزيد بأكثر من 20 ضعف عن التدمير الرأسمالي في السنوات الست الأولى من الصراع السوري (World Bank 2017).

وأخيرا، هناك مخاطر تحيط باستقرار المنطقة وتنميتها في الأجل الطويل، وذلك من خلال الآثار الواقعة على الثقة والتماسك الاجتماعي . فقد أدت الصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تزايد انعدام الأمن وانخفاض الثقة، وهو ما تجلى في انخفاض الاستثمار الأجنبي والمحلي وتدهور أداء القطاع المالي وزيادة الإنفاق على الأمن وتقلص السياحة والتجارة. وضعفت الثقة الاجتماعية أيضا، مما أثر سلبا على المعاملات الاقتصادية وصنع القرار السياسي.

الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة

يمكن أن يكون الضرر الاقتصادي الكلي هائل. فتشير التقديرات إلى أن إجمالي الناتج المحلي السوري لعام 2016، مثلا، أقل من نصف المستوى الذي كان عليه في عام 2010 قبل الصراع (دراسة Gobat and Kostial 2016). وفقد اليمن ما يقدر بنحو 25% إلى 35% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2015 وحده، بينما انخفض إجمالي الناتج المحلي في ليبيا بمقدار 24% في عام 2014 بعد تزايد العنف — حيث أدى الاعتماد على النفط إلى تقلب شديد في النمو. وتُعرِض الضفة الغربية وقطاع غزة منظورا طويل الأجل عما يمكن أن يحدث للنمو في الأوضاع الهشة: عانى اقتصادها من الركود شبه التام على مدى السنوات العشرين الماضية مقارنة بمتوسط النمو البالغ ما يقرب من 250% في البلدان الأخرى بالمنطقة خلال هذه الفترة (World Bank 2015).

وبالإضافة إلى ذلك، أدت هذه الصراعات إلى ارتفاع التضخم وضغوط على سعر الصرف. ففي العراق، وصل التضخم إلى ذروة تزيد عن 30% خلال منتصف الألفينات؛ وارتفع في ليبيا واليمن إلى أكثر من 15% في عام 2011 نتيجة انهيار الإمدادات من السلع والخدمات الحرجة فضلا عن اللجوء بقوة إلى التمويل النقدي للميزانية. وكانت حالة سوريا أكثر تطرفا من ذلك، حيث ارتفعت أسعار المستهلكين بنحو 600% بين عام 2010 وأواخر عام 2016. وعادة ما تكون ديناميكيات التضخم هذه مصحوبة بضغوط خافضة قوية على العملات المحلية، وهو ما قد تحاول السلطات المحلية مقاومته من خلال تدخل قوي وتنظيم التدفقات العابرة للحدود. ومن الواضح أن هذه القوى تفاعلت في سوريا: تُتداول الليرة السورية رسميا، التي جرى تعويمها في عام 2013، بعُشر قيمتها مقابل الدولار الأمريكي قبل الحرب.

وتشعر بلدان الجوار التي تستضيف اللاجئين بالضغط الاقتصادي أيضا. وأكثر البلدان تأثرا بشكل مباشر هي تركيا التي استقبلت أكثر من 3 ملايين شخص، وهو ما يعادل 4% من سكانها في عام 2016؛ ولبنان الذي استوعب مليون لاجئ تقريبا، أو ما يعادل نحو 17% من سكانه؛ والأردن الذي شهد تدفق 690 ألف شخص، أو ما يعادل 7% من سكانه (UNHCR 2017).

وفيما يخص هذه البلدان المستقبلة للاجئين، والتي كانت تواجه بالفعل ودون استثناء تحديات اقتصادية، أدت تدفقات اللاجئين إلى ضغوط إضافية على الميزانيات والإمدادات من الأغذية والبنية التحتية والإسكان والرعاية الصحية. وسجلت البلدان المجاورة لمناطق الصراع الكثيف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هبوطا في النمو السنوي لإجمالي الناتج المحلي قدره 1.9 نقاط مئوية في المتوسط، مما أدى إلى معدل نمو بطئ جدا غير قادر على توفير وظائف كافية لأعداد السكان المتزايدة. وعلى سبيل المثال، تباطأ متوسط النمو الحقيقي السنوي في الأردن إلى 2.6% بين عامي 2011 و2016 من 5.8% بين عامي 2007 و2010.

ويمكن أن يتغلغل أثر التدفق الكبير للاجئين في جميع أرجاء الاقتصاد. وتشير الأدلة من لبنان إلى أن العمالة غير الرسمية كبيرة الحجم بين اللاجئين والنشاط الاقتصادي المكبوح أديا إلى انخفاض في مستويات الأجور ومشاركة المحليين في القوى العاملة، ولا سيما بالنسبة للنساء والشباب. وقد أدى زيادة الطلب على الإسكان في محافظة المفرق بالأردن (منطقة تقع في شمال شرق البلد على الحدود مع سوريا) إلى ارتفاع الإيجارات بنسبة 68% بين عامي 2012 و2014 — مقارنة بنسبة 6% في عمان.

إدارة أهداف متعددة

تؤدي السياسات الاقتصادية الكلية والمؤسسات دورا كبيرا في خفض أثر الصراع، حتى أثناء الصراع نفسه، للحد من الضرر الفوري وتحسين الآفاق الاقتصادية طويلة الأجل للبلد (راجع الرسم البياني 1). وأثناء الصراع، ينبغي أن تركز الحكومات على ثلاث أولويات:

  • حماية المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية من التوقف عن العمل أو الفساد: يمكن أن يساعد ذلك في الحد من انتشار الفقر وكذلك دعم الخدمات الحيوية. فيمكن أن تتداخل الاضطرابات في البنوك المركزية مثلا مع نظم المدفوعات التي تعد ضرورية لرواتب القطاع العام ولإدارة احتياطيات النقد الأجنبي لسداد قيمة الواردات المطلوبة. ومن الأمثلة المشجعة هي خطة استمرارية العمل لسلطة النقد الفلسطينية، التي أدت دورا أساسيا في الحفاظ على تشغيل نظام المدفوعات والإطار الاحترازي الكلي القوي خلال الفترات التي شهدت زيادة الضغوط، مثل التوتر الذي حدث في غزة في عام 2014.
  • وترتيب أولويات الإنفاق العام لحماية الأرواح البشرية والحد من زيادة عجز المالية العامة وقدر الإمكان المساعدة في الحفاظ على النمو الاقتصادي المحتمل: تسعى هذه السياسات إلى التصدي بشكل مباشر للتحديات المتمثلة في الإضرار برأس المال البشري والمادي. ويمكن أن يؤدي الحفاظ على بعض الانضباط في المالية العامة إلى خفض الأعباء من على عاتق الحكومة بعد انحسار العنف. وفي العراق، على سبيل المثال، تضع السلطات خططا بالاشتراك مع البنك الدولي وجهات أخرى لتوجيه الاستثمارات العامة إلى المناطق الجغرافية التي تمت استعادتها من تنظيم داعش بعد عنف شديد، بهدف تحقيق مكاسب سريعة لتحسين الخدمات العامة واستعادة التماسك الاجتماعي ووضع الأساس للنمو. وفي أفغانستان، حاولت الحكومة الجديدة في عامي 2002 و2003 الحفاظ على انضباط المالية العامة وتوفير الخدمات الأساسية للسكان بمساعدة خارجية. وركزت الحكومة على الإنفاق على الأمن والتعليم والصحة والمساعدة الإنسانية. وكانت الظروف صعبة للغاية نظرا لفقدان الموظفين المؤهلين في وزارة المالية عقب الهجرة خلال سنوات الحرب والتدمير الجزئي للبنية التحتية للمكاتب الإقليمية للوزارة والأضرار التي تعرضت لها البنية التحتية للاتصالات والنقل.
  • وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي والتطور المالي من خلال سياسات نقدية وسياسات بشأن سعر الصرف تتسم بالفعالية: يمكن للسياسات المناسبة أن تساعد في احتواء التضخم وتقلب سعر الصرف اللذان يؤديان إلى تفاقم الأثر السلبي الذي تتعرض له مستويات المعيشة. ويقدم لبنان مثالا جيدا على ذلك. ففي أعقاب تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في عام 1989، ظل اقتصاد البلد هشا لعدد من السنوات. وفي عام 1992، طبقت السلطات سياسة ارتكاز اسمية تستند إلى سعر الصرف تستهدف تحقيق زيادة اسمية طفيفة في الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي. ونجحت هذه السياسة في تحقيق الاستقرار للتوقعات وانخفض التضخم إلى معدلات من رقم واحد.

وللأسف، تبين التجارب في المنطقة أنه من الصعب تنفيذ أولويات السياسات هذه في أوقات الهشاشة الاجتماعية السياسية، عندما يقع صناع السياسات في مأزق بين أهداف متعددة — وغالبا ما تكون متنافسة.

وبعد انحسار الصراع، ينبغي أن يتحول تركيز السياسات إلى إعادة البناء والتعافي الاقتصادي. غير أنه ثبت صعوبة تحقيق ذلك نظرا لأن البلدان تكون لا تزال تعاني من الهشاشة حتى بعد انتهاء أسوأ أشكال العنف. وكثيرا ما لا يكون لدى الحكومات السيطرة الكاملة على كل الأراضي التي تقع ضمن حدودها ويظل الأمن بعيد المنال. وفي هذه الأوقات، ينبغي أن تسعى السياسات الاقتصادية إلى توطيد السلام. وينبغي أن تكون الأولوية القصوى هي إعادة بناء المؤسسات وتحديثها وتعبئة الموارد لإعادة البناء ودعم النمو الأكثر قوة والشامل للجميع. ولكن غالبا ما تكون تكلفة إعادة البناء باهظة — وخاصة عندما تتداخل الصراعات في المنطقة. وبينما لا يزال يتعين تقدير تكلفة إعادة البناء في ليبيا وسوريا واليمن، فإن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن الأضرار تبلغ ما قيمته 300 مليار دولار حتى الآن.

وهناك دور مهم للشركاء الخارجيين لمساعدة البلدان التي تتعافى من الصراع. ويمكن لهؤلاء الشركاء، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية، دعم توفير التمويل للبلدان أو حتى المساهمة بجزء بنفسها لاستكمال الجهود المحلية المبذولة لتعبئة الإيرادات. وتحتاج البلدان المنخرطة في صراعات لا محالة إلى قدر كبير من الدعم في مجال بناء القدرات بعد انتهاء الحرب وكذلك إلى تمويل للأغراض الإنسانية وإعادة البناء.


فيل دي إيموس كبير الاقتصاديين، وغايل بيير اقتصادي، وبيورن روثر خبير استشاري، وجميعهم من إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

يستند هذا المقال إلى مذكرة مناقشات خبراء الصندوق بعنوان "الأثر الاقتصادي للصراعات وأزمة اللاجئين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". * بالانجليزية